الثقافة.. تطوُّرٌ وإبداعْ.. من السعوديّة إلى العالَم والبِقاعْ

الثقافة.. تطوُّرٌ وإبداعْ.. من السعوديّة إلى العالَم والبِقاعْ

16 أبريل 23
Share

إنّ تَطوُّرَ الأمم، وازدهارَ تَنميتِها؛ يَنبُع من ثقافتِها، وأصالةِ فِكرِها.. وإنما تُقاسُ الأممُ بحضارتِها، وثقافتها، وأخلاقها.. وها هي المملكةُ العربية السعودية تُهدِي للعالَم أجمعَ ثقافةً عصريّة متألّقة، وازدهارًا معرفيًّا عَريقًا.. تُطِلُّ مِن خلاله إلى العالَم بوجه جديد، وأناقةٍ فنيةٍ وإبداعية، وثقافية، فريدة.. وقد بدأت الأنظارُ تلتفتُ إليها، وتَنظُر إلى مقوِّمات نَجاحها بعين الإعجاب والقَبول.

تسعى السعودية - حثيثًا - إلى التوسُّع على مستوى المتاحف، والبينالي، والأحياء الفنية، والمَعارض. ويُعتبر التطوّر الكبيرُ الذي تشهدُه على الساحة الفنية: أحدَ أكبرِ التحوّلات في عالم الفن العالميّ.

وفي العامَين الماضيَيْن؛ أُقِيمَ عديدٌ من الفعَاليّات الافتتاحية، في الوقت الذي كانت فيه المتاحفُ الكبرى ما زالت قَيد الإنشاء؛ في الرياض، وفي أنحاءَ أخرى من المملكة.

وفي هذا الصدد؛ تقول أنطونيا كارفر، مديرة "فنّ جميل" Art Jameel: "قبل عَشْر أو خمس سنوات، لم نَكُن نتصوّرُ أنْ تُصبحَ السعودية وُجهةً سياحية ثقافية عالمية، إلى جانب دَورها المُهمّ كمَوقعٍ للحجّ". مُضيفة: "ورُغم هذا، وفي مدّة زمنية قصيرة؛ بدأنا نرى تَشَكُّلَ مِحوَرٍ فنّي (الرياض - العُلا - جُدّة)، وبالطبع إلى جانب إثراءٍ في المنطقة الشرقية، وهو ما شَغلَ جزءًا مُهمًّا مِن رُوزنامة النشاطات".

من المفيد جدًّا أنّ نقول: إنّ الساحةَ الفنيةَ السعوديةَ بُنِيت على أُسُس متينة؛ ففي ثمانينيات القرن الماضي؛ اجتمَع عددٌ من الرسّامين في "بيت الفنون" بالرياض. كذلك تَشكَّلَ لاحقًا، في العَقدين الأول والثاني من الألفية الثانية، في جُدّةَ: مَشهدٌ فنّيّ نابضٌ بالحياة، ما سَمَح بتقديمِ أعمالِ فنّانين يتمتّعون بالشهرة؛ مِنهم: "أحمد ماطر"، و"عبدالناصر غارم"، و"منال الضّويّان".

ومع إعلان "رؤية 2030"، في عام 2018م؛ كان كلُّ شيءٍ قد تَغيّر وتطَوَّرَ. ففي إطار هذه الرؤية؛ انتقل الفنّ إلى المقدّمة، وبات يُشكل أولويةً استثمارية بالنسبة للقيادة. وبدأت الهيئات الحكومية التي أُنشِئت حديثًا، بِوَضع مجموعةٍ من البرامج؛ من: مِهرجاناتِ الرياض للفنون، إلى: البِيناليّات الدولية التي نُظّمتْ بدقّة واهتمام كبيرين، فالمَعارض التي أُقيمت في الدرعية وجُدّة.

وهكذا مُنِح الفنانون الذين عَرضوا أعمالهم أولًا ضِمن: مَعرِض جُدَّةَ للفنون 21،39، وصالاتِ عرض أثر، والحافظ، أو ضِمن فعاليّاتٍ خاصة؛ مُنِحوا فرصةً للظهور على المستوى العالمي. 

وعلى هذا تُعلِّقُ "آية البَكري" - الرئيسةُ التنفيذية لمؤسّسة "بِينالي الدرعية -، بالقول: "استطاع الفنانون السعوديون من ذوي التجربة، ومن الناشئين، الذين شاركوا في "البينالي": المساهمةَ في الخطاب الفنيّ العالميّ، ومن هؤلاء: منال الضّويان، لولوة الحمود، مهنّد شونو، سارة إبراهيم، بَسمة فلمبان، وغيرهم". وتتابع: "وتُؤكِّد مراجعةُ أعمالهم: إحدى الحقائق الثابتة التي نَفخر بها. وكان الاهتمام بالبينالي مُفرِحًا إلى حدّ كبير، حيث استقبلْنا 100,000 زائر خلال النسخة الافتتاحية لبينالي الفنون الإسلامية في الأيام الـ 15 الأولى فقط".  

في نهاية عام 2022م؛ أعادت "مؤسسة بينالي الدرعية"، تنظيمَ حدَثِها الأبرزِ، برعاية "فيليب تيناري"، المدير العامّ والرئيس التنفيذي لمركز UCCA للفن المعاصر في الصين. وساعد هذا، الفنانين السعوديّين على الانتقال إلى مستوى آخر، إلى جانب فنانِين من الصين، وأفريقيا، وأوروبا، وأمريكا.

وفي عام 2023م؛ تمّ افتتاح "بينالي الفنون الإسلامية في جُدّة"، وذلك في إحدى صالات المطار التي تمّ بناؤها في عام 1981م لاستيعاب أعداد الحجاج. وكان هذا الحدث فريدًا في نوعه، وشكَّلَ دعوةً للفنانين إلى التفكير، والاحتفاء على طريقتهم، بالطقوس: مِن الأذان، أو الدعوة إلى الصلاة، إلى أغطية الكعبة المشرفة - إحدى القطع الفنية التاريخية التي عُرضت -، إلى جانبِ أخرى ترتبط بالفن المعاصر.

يقوم جزء كبير من العمل في إطار المشهد الفنيّ السعوديّ المعاصر؛ على بِناء البِنية التحتية الخاصة بأماكن العرض، مع إتاحة الفرصة لجيل جديد بالظهور في المقدمة. وبالنسبة إلى "حيّ جميل"؛ الذي تَم إطلاقُه في جُدّةَ في أواخر عام 2022م؛ فقد كان الهدف منه هو: إبراز المناظر الطبيعية وَفقًا للدَّور الذي أُرِيدَ للمركز أنْ يُؤدّيَه.

وتشرح "كارفر" ذلك، فتقول: "حيّ جميل هو حاليّا أحد المُجمّعات القليلة المستقلة في المملكة العربية السعودية، وقد تم بناؤه تحديدًا لرعاية هذا الجيل الجديد من الفنانين والمبدعين"، مضيفة: "في فنّ جميل نرى أن دورَنا مكمِّل لدَور الفعاليات الحكومية واسع النطاق".

وتشير إلى أن الهدف هو: سدّ الثغرات (مثل: إطلاق سينما حيّ؛ أول مركز سعوديّ مستقلّ للأفلام)، وجَعْلُ المَشهد أكثرَ اتساعًا على نحو مستمر (من خلال برامجَ تعليمية تقدِّم ما يحتاج إليه كلُّ شخص)، فضلاً عن: ريادةِ برامجِ البحث المُعمّق في إطار مجتمَع الفنون.    

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ "جُدّة" - مركزُ الفنون في المملكة مدّة طويلة -؛ شهدتْ تحوُّلًا كبيرًا. وهكذا أصبحت البلدُ (المدينة القديمة)، وأحدُ مواقعِ التراث العالميّ: منطقةً سياحيةً وثقافية في آنٍ واحد.

وفي هذا السياق؛ يتمُّ بناءُ، وتحديثُ متاحفَ جديدةٍ، من بيوت التراث، إلى تلك التي تَعتمدُ على إمكاناتِ التّقنيّات التفاعلية، وذلك بالتعاون مع موقع تابع للوكالة الرقمية اليابانية TeamLAB.

كذلك؛ يتمُّ تطويرُ مِساحاتٍ أخرى على نطاقٍ أكثرَ اتساعًا، ونَذكُر في هذا السياق: "العلا"؛ الوادي الذي تبلغُ مِساحته 22.561 كيلو متر مربع، ويضمّ مَواقعَ أثرية وتراثية، حيث تتوفرُ فيه عروضٌ فندقية فاخرة، وفرَصٌ كبيرةٌ للقيام برحلات استكشافية. ويمكن الحديث هنا أيضًا عن: مُتْحفٍ أُقِيم في الهواء الطلق، ويُطلق عليه: "وادي الفن"؛ حيث يُمكن للفنانين ابتكارُ أعمالٍ تحدِّدُ مَسارَهم الإبداعيَّ، انطلاقًا من الصحراء.

وتُركِّز "نورا الدبل" - مديرةُ البرامج الفنية والثقافية في الهيئة الملكية لمحافظة العُلا -، على: الفائدة التي يعود بها تاريخُ الموقع على هذه العروض الجديدة، فنظرًا لوقوعها في واحة؛ عَرفتِ العُلا حضاراتٍ مختلفةً، بل إنّ بعضَ هذه الحضارات أقام مَنازل له هناك آلافَ السنين. كذلك سافَرَ الأنباط، الذين اشتُهِروا ببناء مَدافنِ البتراء في الأردنّ، عَبر شبه الجزيرة العربية، وتركوا أثرًا لهم في العُلا، ويُعرَف اليومَ باسْم "الحجر"، وأصبح منذ عام 2008م: أحدَ مواقع التراث العالميّ التابعة لمنظمة اليونيسكو.

وتقدَّمُ عروضُ وادي الفنّ الحديثةُ، وبرامجُ أخرى في الوِديان القريبة مِن هذه المَدافن المَهيبة؛ في جِوارِ مَواقعَ تاريخيّة أخرى. وتَشملُ هذه العروضُ: النقوشَ الصخريةَ التي تعودُ إلى الفترة الممتدّة بين القرنَين الرابع والأول قبل الميلاد، أي: إلى عصر مملكة دادان، وبقايا منازل الطّوب - اللَّبِن -، التي يُمكِنُ مشاهدتُها في المدينة القديمة، وكانت مأهولةً بين القرن الثاني عشرَ، وأوائلِ ثمانينات القرن الماضي. (نُشير إلى أن هذا الموقع الذي ظلّ مأهولًا بصورة مدهشة مدّةً طويلة؛ سيكونُ مِحْورَ اهتمامِ أعمال منال الضّويان الفنية المخصَّصة لوادي الفن).

"تشكِّلُ العُلا جزءًا مهمّا من حالة التجدّد الثقافيّ السعوديّ، كما هي معدودةٌ في تاريخ البلاد الثقافيّ العريق"، تقول الدبل، مُضيفةً: "بسبب توسُّع مشروع العُلا؛ لدينا خبراء آثار يكتشفون نقوشًا صخرية تعود إلى آلاف السنين الماضية. وإضافة إلى ذلك، في واد يقع على بُعد مِيل عنها؛ ترانا نسعى إلى مزيد من الأعمال الفنية التي يُمكنها تحدّي الصعوبات، من خلال مبادرتنا "وادي الفن". وخلافاً للفنّ الذي يتمّ عرضُه في أي مدينة أخرى؛ يمكِنُنا في "العلا"، الاستفادة من البيئة المحيطة".

وتتابع: أنه فيما يتعلق بمعرِض صحراء "X العُلا"؛ يتم تقديم أعمال عالمية وسعودية مرّةً كلَّ عامَين. وأوضحتْ: أنه مع إطلاق الأعمالِ الخمسة الأولى في إطار "وادي الفنّ"؛ "يُصبح لدى الزائرين أعمالٌ دائمةُ الحضور، يُمكِنُهم التفاعلُ معها متى قاموا بزيارة الفنادق الجديدة، وأماكنِ الضيافة الأخرى التي نَبْنيها في الموقع".      

لا شكّ أنّ الاستثمارَ الجديدَ؛ يؤدي بالفعل إلى تغييرِ أسلوبِ الفنّ السعوديّ، حيث يَدفع به إلى خارج صالات العرض نحو الصحراء، والواحات، ومِساحاتٍ أخرى تقَع في الهواء الطلق. ونَعلم جميعًا: أنّ الاتجاهَ الفنيّ الأوسعَ ينْحُو نَحْوَ مواكبة الأزمة البيئية التي أصبحتْ موضوعَ بحثٍ رئيسيّ. وفي هذا الاتجاه، وتحديدًا في المنطقة الشرقية، يُولِي فنانُونَ - مثل: محمّد الفرج، وعزيز جمال - اهتمامًا كبيرًا لمشكلة ارتفاع درجات الحرارة، والشّحّ المتزايد في المياه.

ومن خلالِ عملٍ تركيبيٍّ، أَنْجزَه في عام 2022م، تحتَ عنوان: "وادي حافِظِي الصحراء"؛ يُركِّزُ الفنان "أيمن زيداني" - المُقِيمُ في الرياض -، على الصحراء، ليس باعتِبارها مَوقعًا للفراغ؛ بل جزءًا من الأنظمة المُعقّدة، ومِن عمليّة التطوُّر والنمُوّ.          

بدوره؛ قام الفنان "مهند شونو" بإحراق أوراق النخيل، في إطارِ عملٍ تركيبيٍّ، أَنْجَزه في واحة "مَبِيتي العُلا"، مُضيفًا بذلك بُعْدًا حِسّيّا جديدًا إلى عمله. وبالفعل؛ يتّسِعُ طموحُ كثيرٍ من الأعمال الفنية، حيث يستجيبُ الفنانون لمتطلبات المُحيط، أكثرَ فأكثر.  

ومِن المُلاحَظ: أنّ الرياض نَمَتْ كمركزٍ فنّيّ، وباتتْ تتمتّع في هذا الإطار بأهمّيةٍ أكثرَ ممّا كان عليه حالُها في السنواتِ العَشر الماضية. ففي "الدرعية" - التي تقعُ على بُعْد 20 دقيقةً خارجَ المدينة -؛ عمِلتْ وزارة الثقافة على تطوير "حيّ جاكس"، وقد كان سابقًا مكانًا لتجمُّع عددٍ من المستودعات. والآن تَضُمّ هذه المِساحةُ صالاتِ عرْضٍ بُنِيت من أجل إحياءِ فعاليةِ "بينالي الدرعية الدوليّ"، وعديدٍ من الاستوديوهات العائدة إلى مجموعة من الفنانين؛ ومنهم: ماطر، وشونو. 

بالنسبة إلى مُتابِعين ومُراقبِين كثيرين؛ فإنّ الخطوة التالية هي: توجيهُ الأنظار نحوَ الخارج. وقد عَبَّرَ عديدٌ من الفنانين الذين التقيتُهم، عن رَغبتِهم في القيام بمشاريعَ على مستوًى عالميّ، وأنْ يَتِمَّ النظرُ إليهم كفنانين، وَفقًا لشروطهم الخاصة، بدلًا مِن حَصْرِهم في إطار هُويّتهم كفنّانين سعوديين. كذلك بدأت المؤسسات تُحَوّلُ أنظارَها نحو الخارج. لذا، نَشأت الشراكةُ بين: "إثراء"، وعديدٍ من المَتاحف الدولية، على مستوى العروض المتنقلة، كما أعارت "مؤسسة بينالي الدرعية"، عديدًا من الأعمال لِــ: "بينالي ليون"، في عام 2023م.

وهذا ما تُعلِّق عليه "البَكريّ"، بالقول: "يَرتبِطُ نجاحُنا أيضًا بالشراكات التي نُقِيمُها"، مُضيفةً: "ما نَهدف إليه هو: البناءُ على نجاح كلٍّ مِن البناليَّيْن... لوَضع المملكة العربية السعودية على خريطة الثقافة العالمية".