جزر فرسان: غموضٌ ساحر وهدوءٌ آسر

جزر فرسان: غموضٌ ساحر وهدوءٌ آسر

مع مرور الزمن أصبح هذا الآرخبيل الذي يضم 170 جزيرة كبيرة وصغيرة إحدى الوجهات السعودية الصاعدة التي لابد من زيارتها
08 يونيو 23
Farasan Islands: Mangroves of the Al Qandil Forest Image source: Osama Jaberti and Aladdin Enzawi
Share

 تصور أنّك تقف الآن أمام مياه تركوازية، على أرض جزر خضراء غير مأهولة إلى حدّ ما، ويحفل كلّ منها بالكنوز والأنواع الطبيعية المختلفة. وما رأيك أن يصبح هذا التصور حقيقة وأن تذهب إلى جزر فرسان حيث تشكل الشعاب المرجانية، الجزر الكبيرة والصغيرة، الدليل القاطع على عمق وغنى المشهد الطبيعي في السعودية؟  وما هذه الجزر إلا إحدى الجواهر الثمينة البرية والبحرية التي تختزنها المملكة. ولطالما شكلت أرضها البكر نقطة جذب للمسافرين على مر العصور، ما يعود إلى جمالها الطبيعي وأهميتها التاريخية.

وتقع جزر فرسان على بعد 40 كيلومتراً عن ساحل جازان، قبالة الساحل الجنوبي الغربي للمملكة، وهي تتميز بمناخ شبه استوائي وجاف، وتسجل ارتفاعاً في متوسط درجات الحرارة غالباً وانخفاضاً في معدل هطول الأمطار التي تشهدها أشهر يناير، مايو وأكتوبر تحت تأثير الرياح الموسمية التي تهب من المحيط الهندي.  

  وبعدما كانت لوقت طويل وجهة يقصدها السكان المحليون، يتم الاهتمام بجزر فرسان اليوم من أجل وضعها على خريطة السياحة العالمية. وتماشياً مع رؤية 2030، تعمل المملكة العربية السعودية على تطوير قطاع السياحة ليلبي تطلعات السياح من المنطقة والعالم، وفي هذا السياق أصبحت هذه الجزر موقعاً مهماً بسبب جمالها الطبيعي، تراثها الثقافي والتاريخي وتوفر إمكانات السياحة البيئية فيها.

جنة التراث الثقافي

منذ الألفية الأولى قبل الميلاد، استقطبت جازان الناس من شبه الجزيرة العربية، أفريقيا وأوروبا، علماً أن الأرخبيل يستمد اسمه من عبارة Portus Ferresanus  التي تضمنها نقش لاتيني عُثر عليه في الجزيرة الرئيسية ويعود تاريخه إلى العام 144 الميلادي، وهو يدلّ على وجود الحامية الرومانية التاريخي. ومع مرور الزمن، استحوذت هذه الجزر على اهتمام عابرين آخرين مثل العثمانيين والألمان الذين بنوا حصناً على أرض إحداها أيام الحرب العالمية الثانية.

ومنذ العصور القديمة، شكل هذا الأرخبيل، نقطة مهمة للتجارة والتبادل الثقافي، نظراً إلى موقعه القريب من طرق الشحن الدولية ومن مضيق باب المندب والقرن الأفريقي، وهي الحقيقة التي أثبتتها العديد من الاكتشافات الأثرية. لذا يُعتبر التراث الثقافي أحد أبرز عوامل الجذب السياحي المحلي والعالمي في جزر فرسان، وهو ما يمكن اكتشافه تحديداً في الجزيرة الرئيسية التي تُعرف أيضاً باسم فرسان.

فقد مرت العديد من الحضارات من هذه الجزر وأقامت فيها. لذا تُشتهر الجزيرة الرئيسية بالقلعة العثمانية التي تتميز بسلالمها الطويلة والتي كانت إحدى القواعد العسكرية حتى مطلع القرن العشرين. ومن أعلى القلعة يمكن الزائرين مشاهدة محيط الجزر وسط البحر الأحمر. وثمة آثار عثمانية أخرى منها مباني العرضي التي تذكر بالحكم العثماني للجزر قبل تأسيس السعودية الحديثة.   

ويُذكر أنه في العام 2005 قام فريق بحث سعودي فرنسي برحلة استكشافية إلى جزيرة فرسان واكتشف بقايا معمارية وأثرية تعود تقريباً إلى العام 1400 قبل الميلاد.

 وفي أغسطس 2022، أعلنت هيئة التراث السعودية، إثر أعمال التنقيب، اكتشاف العديد من الهياكل والتحف المعمارية التي تعود بتاريخها إلى القرنين الثاني والثالث. وتضمنت القطع المكتشفة درعاً رومانية مصنوعة من سبائك النحاس ودروعاً تُعرف باسم "لوريكا سكواماتا" وكانت تستخدم في العصر الروماني. كذلك تم اكتشاف نقش من العقيق لجينوس، الشخصية التاريخية الشهيرة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية الشرقية، فضلاً عن رأس تمثال حجري صغير.

وتشير كل من هذه الاكتشافات إلى أهمية الموانئ التاريخية التي كانت تتحكم بالطرق البحرية وتؤثر على تجارة البحر الأحمر. وفي الماضي أيضاً كانت مصائد الأسماك المليئة باللآلئ من المصادر الرئيسية التي ساعدت السكان على كسب رزقهم، إضافة إلى صيد الأسماك الذي ما زال مهنة الكثيرين.

وعلى أرض جزر فرسان تقع أيضاً آثار قرية القصار القديمة، وهي من أكثر البقع التي كانت مأهولة في الجزيرة قدماً. وهناك يمكن استكشاف الهياكل المصنوعة من الطين، الحجر الرملي، والأحجار المرجانية التي يتم استخراجها من المياه القريبة، وهو المزيج الذي شكل مادة لبناء المنازل لدى السكان القدامى. ونشير إلى أن هذه الأماكن السكنية التي ما زالت قائمة رغم تعرضها للدمار تعود إلى العصر الروماني. ويمكن تعداد 400 منزل ما زال عدد قليل منها مأهولاً بالسكان، فيما تحولت منازل أخرى إلى بقايا وباتت أشبه بالمتحف الذي يروي الحكايات عن سكان سابقين. ويُذكر أنه تم تصميم القرية في الأصل لتكون مقراً صيفياً، وقد بنى السكان منازلهم على طول خمسة خطوط. وهناك يمكن العثور على بصمة رومانية أخرى في الكدمي، حيث تنتشر بقايا حجرية تشبه الأعمدة.    

وفي قرية القصار، يمكن زيارة بيت الرفاعي، وهو مسكن بناه تاجر لؤلؤ ثري يُدعى منور الرفاعي. وتنتمي عمارته إلى النمط الفرساني التقليدي حيث تم بناء الجدران من الحجر المرجاني، الحجر والرمل، كما يمكن رؤية المنحوتات الدقيقة على جدرانه الجبسية. وتضم القرية أيضاً مسجداً تم بناؤه في العام 1928 في مرحلة الذروة التي شهدتها تجارة اللؤلؤ، وأطلق عليه اسم تاجر اللؤلؤ ابراهيم النجدي. ويلاحظ أن زخرفته تحفل بالأشكال المنحوتة والهندسية. وكما هي حال بيت الرفاعي، يشكل هذا المسجد لوحة معمارية مدهشة ودرساً تاريخياً في التراث السعودي القديم والحديث.

ومن المواقع السياحية الأثرية الأخرى نذكر وادي مطر، وهو يقع في فرسان الكبرى حيث يمكن الزائرين مشاهدة صخور كبيرة تظهر عليها نقوش حِميرية تعود إلى القرن العاشر، وجبل لقمان حيث تتربع بقايا قلعة قديمة.

ومن أجل تطوير السياحة في هذه المساحة، يتم تحضير العديد من المشاريع التي تشمل المواقع الطبيعية والثقافية فيها، إلى جانب العديد من المواقع الأثرية التي تعكس تاريخ المنطقة.

أرض العجائب الطبيعية والتنوع البيولوجي

لجزر فرسان وجه آخر تشكله المناظر الطبيعية والبحرية. في الحقيقة تُعتبر هذه الأرض جنة لمحبي الغوص والمسافرين الذين يتوقون إلى استكشاف الطبيعة، فهي تتميز بالتنوع البيولوجي البحري. ومن موقعها في جنوب غرب السعودية، على مقربة من الحدود مع اليمن، تشكل الجزر المرجانية جوهرة ومادة غنية لدراسة الجمال والتنوع البيولوجي جنوبي البحر الأحمر.


وتتكون الجزر التي يبلغ طولها 70 كيلومتراً ويرواح عرضها بين 20 و40 كيلومتراً، من الحجر الجيري المرجاني الذي يرتفع عن مستوى سطح البحر من 10 إلى 20 متراً في بعض الجهات ليصل في جهات أخرى إلى 40 ثم يبلغ أعلى مستوياته أي 75 متراً. ويسمي السكان المحليون هذه الارتفاعات جبالاً.
ولن يتمكن الزائر من إخفاء دهشته أمام مشهد الرمال البيضاء التي تحتوي على أجزاء من الشعاب المرجانية والأصداف البحرية، وسيلاحظ أن الشريط الساحلي للجزر يتميز بالتنوع البيئي، ما يشمل أشجار المانغروف الحمراء والسوداء، الشعاب المرجانية، أحواض الأعشاب البرية، شعاب الطحالب والمستنقعات المالحة. وتعدّ المياه المحيطة موطناً لأنواع الأسماك والمخلوقات البحرية المختلفة مثل أسماك المانتا، الدلافين، الحيتان، أسماك الأطوم، السلاحف الخضراء وسلاحف منقار الصقر. ولا ننسى أسماك الببغاء الملونة التي يمكن الغواصين ملاحظتها بسهولة والتي تشكل أحد أسباب الجذب في مياه الجزر.


ويمكن أولئك الذين يرغبون في دراسة مجموعة شديدة التنوّع من مكونات الحياة البحرية في هذه المنطقة زيارة المتحف البحري الذي أسسه، في مارس 2022، زيلعي الزيلعي، وهو سعودي متقاعد أظهر شغفاً كبيراً بالحياة البحرية. وأنشئ المتحف، الذي يقع في جزر فرسان، بعد سفر الزيلعي إليها وإقامته برفقة مجموعة من صيادي الأسماك في الجزيرة الرئيسية لمدة 20 يوماً، حيث تمكن من تعلم الصيد والسباحة مع الاستمتاع بالمشهد الطبيعي الرائع.

وقد حثّته هذه التجربة على بناء المتحف الذي يضم 10.000 كائن محنط، منها الأسماك، الأصداف والقشريات، علماً أنه تم العثور على 90% منها في مياه البحر الأحمر. ويضم المتحف أيضاً سلحفاة محنطة يبلغ عمرها نحو 300 عام وحوتاً محنطاً. كما زيّن الزيلعي المتحف الذي يحمل اسمه بالأصداف والقواقع البحرية.
أما على الأرض الجافة فتنتشر الكثير من أنواع الحيوانات، ومنها غزلان الإدمي التي تشكل المجموعة الأكبر في المملكة، الغزلان العربية المهددة بالانقراض، والكثير من أنواع الطيور مثل البجع ذو الظهر الوردي والنوارس بيضاء العينين، الطيور الاستوائية ذات المنقار الأحمر، والعقبان النسارية. ونضيف إلى هذا طيور الزقزاق، الصقور السخامية، طيور البحر الأحمر، طيور النحام أو الفلامنغو، والطيور المهاجرة شتاءً وغيرها. ونضيف إلى ذلك أن الجزر هي أيضاً موطن للكثير من أنواع النباتات النادرة، ومنها أشجار المانغروف المهددة بالزوال.
لا شكّ في أنك ستشعر بالذهول كلما زرت هذه الوجهة السعودية المميزة، فهنا يمكن المسافر استكشاف الطبيعة، التراث، والتنوع البيولوجي بطريقة فريدة وممتعة جداً.

هل تعلم؟


في العام 1996، اعتبرت الهيئة السعودية للحياة الفطرية جزر فرسان أحد المواقع المحمية الأكثر أهمية في المملكة. ومنذ ذلك الحين تضم هذه المساحة 84 جزيرة، أبرزها فرسان الكبير، السقيد، والقمة. وهنا يعمل السكان المحليون في مجالات مثل الصيد وزراعة الذرة والدخن.
ويبذل المسؤولون المحليون والحكومة السعودية جهوداً كبيرة من أجل حماية هذه المناطق وتطوير السياحة فيها. ويُشار إلى أنه يُصار إلى القيام بعمل ميداني وأبحاث مكثفة لحماية النظم البيئية البرية والبحرية والغطاء النباتي والثروة الحيوانية التي تحظى بأهمية كبيرة على مستوى الحياة الطبيعية في البحر الأحمر. وقد نتج عن هذه الجهود أول ترشيح في المملكة لجزر فرسان كمحمية محيط حيوي في مارس 2021 من قبل اللجنة الاستشارية الدولية لمحميات المحيط الحيوي. ووافق على هذا الترشيح لاحقاً مجلس التنسيق الدولي لبرنامج الإنسان والمحيط الحيوي التابع لليونسكو في سبتمبر 2021، وذلك خلال الجلسة التي عقدت في أبوجا، نيجيريا.

الإقامة


فيما لا تزال الفنادق الراقية والمنتجعات في جزر فرسان قيد الإنشاء (كجزء مهم من مشروع البحر الأحمر)، يمكن المسافرين الباحثين عن المغامرة أو عن قضاء عطلة نهاية أسبوع لا مثيل لها الاستفادة من العديد من خيارات الفنادق والمطاعم التي تنتشر في جازان. وهي تشمل مثلاً، Radisson Blu Resort، Novotel Jazan Hotel، Courtyard by Marriott Jazan و Farasan Coral Resort.

أفضل الشركات السياحية


أول ما يحتاج إليه الزائر للوصول إلى جزر فرسان هو ركوب العبّارة مجاناً انطلاقاً من الميناء. وفور وصوله إلى الجزيرة الرئيسية، يمكنه الانضمام إلى إحدى الجولات السياحية التي تنظمها شركات كثيرة، ما يتيح له التعرف على الجزر ومحيطها. ومن هذه الشركات نادي مسارات، السعودية للسياحة، نجران للسياحة والمسافر.

تصوير أسامة جبرتي | علاء الدين العنزاوي