الرياض: إعجاب من النظرة الأولى

الرياض: إعجاب من النظرة الأولى

يزور الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية، للمرة الأولى. فكيف وصفها؟ وهل سيعود إليها؟
26 أكتوبر 23
First Encounters Riyadh
Share

أقود السكوتر الكهربائي في الرياض، عبر شارع العليا الذي تحده الأشجار من الجانبين، أتوجه إلى المقهى المفضل لديّ كل صباح، وهناك أتبادل التحية مع عدد من الرواد السعوديين من الرجال والنساء قبل أن أطلب كوباً من شراب إندونيسي بارد. وفي هذه الأثناء أطرح على نفسي مجدداً السؤالين: لمَ لم آتِ إلى السعودية من قبل؟ والآن وبعد أن وصلت إليها، لمَ أصبحت أحبها إلى هذا الحد؟

من السهل الإجابة عن السؤال الأول: فرغم أنني سافرت مراراً إلى منطقة الخليج وعشت فيها ما يقرب من 25 عاماً، إلا أنني لم أتمكن من زيارة السعودية بسبب عدم إصدار التأشيرات السياحية قبل العام 2019، كما لم يتعين عليّ القدوم إليها من أجل العمل. لذا، لم أكن أعرف الكثير عن هذه القوة الاقتصادية الكبرى والمركز الثقافي البارز في المنطقة. في الواقع، أعترف، بصفتي صحافياً، بأن وسائل الإعلام لا تقدم دائماً صورة كاملة للواقع. وحين قررت زيارة المملكة أخيراً، فعلت هذا بدافع الفضول وبانفتاح نسبي. لكنني لم أتوقع أن أشعر بكل هذه المتعة. فما الذي حدث؟

حسناً، لا بد لي من الإشارة أولاً إلى أن الرياض مكان رائع لقضاء الوقت. ففي حي العليا حيث كنت أقيم هذا الأسبوع، يبدو واضحاً الاهتمام بالأماكن العامة والمساحات المشتركة في السنوات الأخيرة. وقد بدأت مرحلة التغيير هذه في مطلع القرن الحادي والعشرين مع إطلاق مشروع حضري يرمي إلى "أنسنة" المدينة، من خلال إنشاء شوارع واسعة تحيط بها الأشجار ومساحات عامة على طول شارع التحلية. وبالطبع، كانت هذه الخطوة مجرد مقدمة لما تم تنفيذه في مرحلة لاحقة. وهو ما لاحظته في أثناء زيارتي بعض مرافق المدينة الحديثة، مثل مركز الملك عبدالله المالي، فيا رياض، فضلاً عن موقع الطريف وتراس البجيري حيث يلتقي الماضي والحاضر. وهكذا كان استكشاف الرياض وقضاء الوقت مع بعض السكان المحليين والمغتربين أشبه بدورة تدريبية في سياق التحوّل الكبير. وأنا أعرف ما يعنيه هذا فعلاً لأنني شهدت على النمو الهائل الذي عرفته دبي في مطلع الألفية الثالثة.

 لكنني لن أنسى يوماً سهولة العيش في العاصمة السعودية. وأتحدث هنا عن خطوط الحافلات الجديدة ومسارات السكوتر الكهربائي، فضلاً عن مترو الرياض الذي يتميز بتصميم محطاته الحديث الموقّع من المهندسة المعمارية البريطانية العراقية الراحلة زها حديد، علماً أنه قد يتم افتتاح مشروع الميترو لاحقاً هذا العام.  

ولا بد لي من أن أذكر أيضاً مشروع الرياض الخضراء الذي يهدف إلى غرس 623.000 شجرة وشجيرة في العاصمة السعودية (تم بالفعل غرس عدد كبير منها حول ممرات مشاة جديدة في المدينة). وبالطبع، سيساهم هذا في جعل صباح الرياض مميزاً للغاية.   

ازدهار ثقافي

لا شك في أن التحول المادي الكبير الذي تشهده الرياض ينعكس إلى حد كبير على حياة مجتمعها. من هذا المنطلق حظيت رؤية المملكة 2030 الطموحة بترحيب وتأييد الشباب المقيمين في المدينة (لا تتخطى أعمار63% من السعوديين الـ30 عاماً). ولعلّ المنتمين إلى هذه الفئة العمرية، الذين بلغوا مراحل تعليمية مختلفة والذين يظهرون الاندفاع على مستوى التفاعل مع ما يجري في محيطهم من أحداث، هم الأكثر قدرة على تحويل الرياض إلى مدينة عالمية، نابضة بالحياة وذات هوية فريدة.

وأذكر كمثال على ذلك تلك النهضة التي يشهدها الواقع الثقافي في العاصمة السعودية. وفي هذا السياق أتذكر فيلم "سطار"، الذي تم إطلاقه العام الماضي، والذي احتل المرتبة الرابعة على لائحة الأفلام التي أنجزت في المملكة بعدما تم في العام 2018 إلغاء الحظر الذي فرض على السينما لمدة 35 عاماً. ربما يحب السعوديون أفلام هوليوود وغيرها، لكنهم يريدون أيضاً التعبير عن أفكارهم الخاصة.

وفي الرياض يزدهر المشهد الفني المحلي أيضاً. ويشكل مشروع الرياض آرت Riyadh Art الذي يهدف إلى تحويل العاصمة إلى لوحة إبداعية تضم 1000 تركيب فني، أحد البرامج الثقافية السنوية التي سيتم تنفيذها في المدينة. أما معهد مسك للفنون فهو منظمة ثقافية غير ربحية تسعى إلى دعم الفنانين المحليين من خلال إقامة ورش عمل ومعارض فنية. وفي موازاة ذلك، يضيف مهرجان نور الرياض للفن والضوء لمسة رائعة إلى حياة المدينة، فيما تسعى مؤسسة بينالي الدرعية إلى تعزيز سبل الحوار بين المجتمعات الفنية المختلفة في المملكة وخارجها. لذا تنظم مثلاً بينالي الدرعية للفن المعاصر في حي جاكس، منطقة الفن المأهولة بالأفكار والطاقة الإبداعية. 

ربما يرتبط نجاح هذه المشاريع والمبادرات بشكل جزئي بالجهود التي بذلت من أجل إرسال الطلاب أصحاب المواهب إلى الخارج بعد العام 2005. وفي هذا السياق يشار إلى أن عدد السعوديون الذين تابعوا دراستهم خارج المملكة وصل إلى أكثر من 200.000 في العامين 2013 و2014. وحصل معظم هؤلاء (نسبة 87%) على تمويل كامل من برنامج الملك عبدالله للمنح الدراسية. وعاد المبتعثون إلى بلدهم ليجدوا أن عصراً جديداً من التداخل بين التأثيرات العالمية والتقاليد المحلية قد بدأ. 

هذا التحوّل الكبير تحدث عنه الفنان المقيم في الرياض عبد الناصر غارم، حين التقيته في الاستديو الخاص به. فقد وصف التغيير بقوله إنه أشبه "بحكاية وجودية، بلحظة أبصرنا فيها النور". وأشار إلى أن رؤية المملكة 2030 "تنظر إلى الأمام متسلحة بخيال قابل للتحقق، كما هي حال فنان يفكّر بالمستقبل"، لافتاً إلى أن السعوديين يحاولون الاستفادة من كل ما يحدث من أجل بناء مستقبلهم الخاص، أي ذلك الذي يستمد موارده من التراث ويشهد بناء وطن يشكل جزءًا من العالم الحديث".

وفي هذا السياق قال غارم: "يبدو أسلوب الحياة العالمي كشكل من أشكال الثقافة البدوية، لأننا ننتقل من مكان إلى آخر. ونحن السعوديين نعبر عن هذا الواقع من خلال فننا وحين نسافر ونتشارك مع الآخرين أفكارنا. هذا هو التقليد الشفهي الذي نحمله من وجهة إلى أخرى". 

الناس أولاً

أعتقد أن العنصر البشري هو أكثر ما جذبني إلى مدينة الرياض. ولأنني أقمت في منطقة الخليج مدة طويلة، أشير إلى أن التغييرات الكبرى وإنفاق المبالغ المالية الضخمة تترافق مع حدوث تحوّل من نوع آخر، تحول فريد على المستوى البشري لم تعرف المنطقة مثيلاً له. وأعني بهذا حقيقة مفادها أن معظم المواطنين في السعودية والذين يفوق عددهم الـ32 مليوناً هم من السكان المحليين الذين لا يسعون إلى تقليد شعوب أخرى. بالفعل، قم بزيارة أحد استوديوهات الفن المعاصر وستلاحظ أن الشباب السعودي الذي لا ينأى بنفسه عن الثقافة العالمية، يمتلك كثيراً من معطيات ثقافته الخاصة التي يمكنه الاستفادة منها.

وقد عشت تجربتين لا بد لي من التحدث عنهما. الأولى في تراس البجيري حيث سألني مرشد سياحي ودود للغاية عن مجريات رحلتي، وأخبرني أنه حائز على شهادة الماجستير وأنه يرغب حقاً في معرفة ما تعنيه الرياض بالنسبة إلي. وشكل هذا التفاعل تجربة فريدة لم أختبرها في أي من مدن الخليج الأخرى وكانت المحادثة مفيدة جداً.

وفي صباح اليوم التالي، توقفت في أحد مقاهي الحي الدبلوماسي، حيث تصطف الأشجار على جانبي الشوارع وحيث أضيفت لمسة من الحداثة إلى معالم الهندسة المعمارية الكلاسيكية. وفي هذا المكان رأيت شباباً وشابات سعوديين يرتدون ملابس أنيقة وقد خرجوا للتو من مراكز عملهم أو استديوهاتهم لتناول وجبة الغداء أو لأخذ قسط من الراحة في أحد المقاهي العصرية أو المعارض الفنية. لاحظت أن معالم الحداثة تبدو واضحة في هذه الوجهة، لكن أيضاً أن المدينة تحافظ على طابعها الفريد لتبدو مختلفة عن عواصم عالمية رائدة أخرى.

وفي هذه الفسحة العربية الحديثة، أحسست بالتفاؤل، ورأيت أن كل شيء أصبح ممكناً. فمن منا لا يشعر بالحماس إزاء مثل هذه التغييرات وبالفضول والرغبة في معرفة ما ستؤول إليه كل هذه التحولات؟ آمل أن أتمكن من زيارة الرياض مجدداً لأعرف الإجابة بنفسي.