صمت وتأمل على متن كامبرفان

صمت وتأمل على متن كامبرفان

يجلس عبد الرحمن الساعاتي على متن أحد منازله المتنقلة متحدثاً عن مفهوم جديد للمغامرة والاسترخاء وداعياً عشاق السفر للعودة إلى الذات وللتواصل مجدداً مع الطبيعة
24 مارس 24
Abdulrahman Al Saati
Share

عندما نتحدث عن السفر، لا بدّ من أن نذكر السعودية التي تحتضن عالماً من الخيارات المتنوعة. ولا بدّ من أن نشير إلى مختلف مواقعها ومدنها حيث يلتقي التاريخ والحداثة. فالرياض مثلاً تتميز بحيوية المدن المعاصرة وبمناخ الصحراء المذهل. أما جدة، فهي موطن الشمس والبحر والشاطئ، وأرض المعالم الحضرية الرائعة.

كذلك لا بد من أن نضيء على ما يرضي تطلعات الباحثين عن التطور التكنولوجي وعن الوجهات المستقبلية، مثل نيوم وتروجينا. وليس علينا أن ننسى العلا، وجهة عشاق الموسيقى والنشاطات الممتعة والتجارب التي لا تُنسى. لكن، مهلاً يبدو أن بعض مناطق المملكة باتت مقصداً لمن يتوقون إلى الابتعاد تماماً عن الضجيج، عن الازدحام، ويفضلون العزلة. فأي الأماكن تناسب هؤلاء في السعودية؟

للإجابة على هذا السؤال، يقول عبد الرحمن الساعاتي الذي التقيناه في منزل متنقل حطّ رحاله لبعض الوقت في العلا: "السعودية بلد شاسع المساحة. ولا يمكنني مقارنتها بأي مكان آخر في هذا العالم. فلكل وجهة فيها أجواؤها وطبيعتها الخاصة".

ويعدد الطبيب الجراح الذي أصبح دليل مغامرات ورحلات منذ تأسيس شركته، ديستيفايند، في العام 2017، وجهاته المفضلة في السعودية. إلا أنه لا يتحدث عن وجهات عادية، بل عن أماكن لا يمكن الوصول إليها بسهولة، نواحٍ لم تطأها أقدام كثيرة، ومناطق تتيح لكل من يقصدها الانقطاع عن العالم وتأمل المحيط الرائع بصمت.

ويتابع الساعاتي فيما تظهر علامات البهجة على وجهه الطفولي: "لنتصور جبلين مرتفعين جداً، مرتفعين جداً، حيث تمنع ظلالهما أشعة الشمس من الوصول إليك عند الشروق أو الغروب. أتحدث هنا عن سلسلة جبال طويلة جداً، تنتشر على سفوحها أشجار النخيل وتُسمع في محيطها أصوات الطيور والأغنام. لنتصوّر هذا المكان شديد الخضرة والذي يتميز برماله الصفراء الناعمة". ويذكر في هذا السياق وادي الديسة، أحد الجواهر الخفية الكثيرة في المملكة، والمكان حيث يمكنه أن يمضي ليله وأن يبطئ الوقت. فهذا الوادي هو موطن للعديد من المواقع الأثرية القديمة التي تعود إلى الحقبة النبطية. وهو ينصح من بدؤوا يشعرون بالحماس ويخططون للذهاب إليه بأن يفعلوا هذا في الفترة الممتدة بين شهري نوفمبر ومارس، أي حين يصبح المسار سالكاً.

وعن الوقت الذي يمضيه في الوادي أحياناً، يقول مدرب الغوص: "لا يمكن التقاط الإشارة في هذه الوجهة، لذا، أغادرها يومياً لمدة ساعة لأعلم الآخرين بأنني بخير. وهناك أعد الشاي وأحضّر بعض الطعام. في الواقع، تشعر أثناء مكوثك في الوادي بأنك تلتصق بالأرض. وهذا يدفعني إلى تأمل رحلة الحياة ويساعدني على اتخاذ قرارات صائبة". 

يصحبنا الساعاتي إلى أعماق عالمه، فيتحدث عن رحلاته إلى منتزه حوية نمار الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بواسطة سيارة رباعية الدفع: "ننتقل عادة إلى هذه المنطقة على متن ثلاث أو أربع سيارات على الأقل، فمن غير المستغرب أن تحدث مشكلة ما، كأن يطرأ عطل على السيارة بسبب طبيعة الأرض الصخرية. وأذكر أننا نضع في السيارات حقائب الظهر، الخيام، والتجهيزات ثم نحملها متوجهين سيراً إلى موقع التخييم"، يقول معبراً عن شغفه بهذا النوع من المغامرات الصعبة ومشيراً إلى أنه يناسبه. لذا، يؤكد أنه لا يتردد في الخلود إلى النوم الهادئ في هذه البقعة النائية حيث تتلاشى أصوات السيارات والضجيج البشري وتُسمع موسيقى صراصير الليل والماء الجاري في جدول قريب. 

ويواصل عبد الرحمن الحديث عن أماكن يشعر فيها بالهدوء العميق، فيذكر وادي الوعبة حيث يمكن التخييم وتأمل مشهد السماء المرصعة بالنجوم والقيام برحلة سيراً على الأقدام للوصول إلى حفرة يبلغ عمقها 250 متراً تشكلت بفعل تجمع الحمم البركانية. ويحيط بهذا التجويف العديد من أنواع النباتات البرية التي تنمو بعد هطول الأمطار، فضلاً عن أشجار الدوم والنخيل. وكما هي حال المواقع الأخرى، ينصح الرحالة بالتوجه إلى هذا الوادي في الفترة الممتدة بين شهري نوفمبر ويونيو.

 يوميات الكامبرفان

تحدثنا إلى عبد الرحمن الساعاتي داخل عربة كامبرفان، وهي إحدى عربات كثيرة يمكن استئجارها. وتجد في داخلها سريراً ملكياً، سريرين فرديين، وأريكة كبيرة، علماً أنها تتسع لأربعة أشخاص. وإذ يقارن بين تجربة التنقل على متن هذه العربة وتجارب التخييم التقليدية، لا يتردد في الإشارة إلى أن الكامبرفانات تتيح فرصة الاستمتاع بالراحة التامة. فهي توفر كافة الخدمات، من المطابخ، إلى الحمامات، فأماكن النوم المريحة. وهو ما تحرص شركة ديستيفايند على  تقديمه لضيوفها من خلال منازلها المتنقلة التي تلتزم بتحقيق التوازن بين المغامرة والرفاهية.

وتهتم الشركة أيضاً بالمسافرين الذين يفضلون الخيارات الجريئة، فتقدم لهم سيارة لاند كروزر معدّلة مناسبة للطرقات الوعرة. وهكذا يمكنهم قيادتها مثلاً للقيام برحلة استكشافية في الربع الخالي، المنطقة الصحراوية الشاسعة شديدة الجفاف والتي تغطي معظم أراضي الثلث الجنوبي من شبه الجزيرة العربية. وتمتد هذه الصحراء على مساحة 650.000 كيلومتر مربع في أجزاء من السعودية، عُمان، الإمارات العربية المتحدة واليمن. وهي موطن حيوانات يمكنها تحمل الظروف المناخية القاسية.

وأياً تكن الرحلة التي يختارونها، يتعين على الزبائن الحصول على سيارة، خريطة وبعض نصائح الخبراء المهمة والضرورية. وبعد ذلك يمكنهم الانطلاق في مغامرة فريدة تستمر أياماً عدة، والانفصال عن صخب العالم الحديث.

ليس من السهل النوم على قمة جبل مع تجهيزات تقتصر على محتويات حقيبة ظهر. وهو ما لا يقوم به الساعاتي يومياً، علماً أنه ما زال يبحث عن ذلك الشعور بعيد المنال بالسلام الداخلي، رغم اختياره هذا المسار المهني.

وهو ما يوضحه بقوله: "عندما تقوم بتأسيس مشروع تجاري، تبدو في البدء مفعماً بالطاقة، فتعمل لما يقرب من 16 ساعة يومياً، ولا تدرك ذلك قبل أن تشعر بالإرهاق. فقد تنبهتُ بعد مرور ثلاث إلى أربع سنوات من العمل المتواصل إلى تأثير ذلك على صحتي، العقلية والجسدية كما على علاقاتي".

ويروي في هذا السياق قصة رحلة تأمل قام بها لمدة سبعة أيام، حيث لم يمتنع عن التواصل مع العالم فقط، بل عن الكلام أيضاً: "كانت تجربة مؤثرة للغاية، فلا تفاعل ولا تواصل إلا على المستوى الجسدي من خلال بعض الأفعال مثل الطهو، النوم، الجلوس، والتأمل". 

ويعرب عن نيته خوض هذه التجربة مجدداً لمدة قصيرة، أي ليومين أو ثلاثة أيام فقط، مؤكداً أن هذا النوع من الرحلات يعود بفائدة كبيرة على الصحة العقلية: "تعلمت من خلال هذه الرحلة كيفية التعامل مع وتيرة العالم المتسارعة. شعرت بعد ذلك بأنني أحتاج إلى إعادة الاتصال، إلى إبطاء السرعة، وإلى إعادة ترتيب أولوياتي. وأذكر أنني دوّنت على لوح وُضع في مكتبي قبل عامين ثلاث أولويات: أولاً صحتي، ثانياً عائلتي وأصدقائي، وثالثاً كل شيء آخر، مثل العمل، المال والتطور".

دورة الحياة

على أرض السعودية الشاسعة، حيث تلتقي الصحراء سفوح الجبال وتتداخل المشاهد الطبيعية ومعالم الحداثة، تمكن الساعاتي من تحقيق بعض تطلعاته. فبعد أن عمل في مجال الطب، أصبح مدرباً للغوص، ثم انتقل إلى عالم الأعمال (فهو المدير العام لشركة ديستيفايند). لذا، يمكن القول إن مسيرته متعددة الأوجه وتشبه بتنوعها تضاريس المناطق التي يقوم باستكشافها.

ونشير إلى أن رحلته في عالم المغامرات بدأت في العام 2010. حينها كان يتابع دراسته في مجال الطب ويعمل مدرباً لهواة الغوص. وبعد أن أمضى عامين في غرف الجراحة، قرر تغيير مسار حياته.

وعن هذا التنوع في مسيرته يقول: "رغم الاختلاف على مستوى بيئات العمل، تجمع الطبيب ومدرب الغوص قواسم مشتركة، إذ يتطلب عمل كل منهما التحلي بحسّ المسؤولية. فحين تكون طبيباً يتعين عليك الاعتناء بحياة شخص ما. وإذا كنت مدرب غوص، لا بد لك من الحرص على حماية شخص ما. ورغم ذلك أصبحت أكثر شغفاً بالغوص. فمن خلاله شعرت بعاطفة الناس، بحبهم. وهو ما يمنحني الطاقة الإيجابية التي أنقلها بدوري إلى الآخرين".

ولا ينسى عاشق البحر عمله في المجال الطبي، وعنه يقول: "في المستشفى ترى كل الأطباء متعبين. لذا، تساءلت يوماً عما إذا كنت أريد البقاء في المكان نفسه بعد مرور 10 أو 15 عاماً، وعما إذا كنت أريد دائماً الرد على أسئلة المرضى، والشعور بالإرهاق. وكانت الإجابة: لا. فأنا شخص اجتماعي، أحب المغامرة، أعشق السفر، وأتوق إلى لقاء أشخاص جدد". 

وخلال السنوات القليلة اللاحقة، قام عبد الرحمن بتنظيم رحلات للأفراد والمجموعات. وشمل برنامج هذه الرحلات نشاطات مختلفة مثل الهايكنغ، الرماية، جلسات العشاء وعزف الموسيقى. لكن في العام 2020، وبعد حصوله على شهادة الماجستير في ريادة الأعمال، قرر الطبيب السابق وشركاؤه دعم صناعة السياحة الآخذة في النمو في المملكة العربية السعودية. فقد لاحظوا أن هذه الصناعة ما زالت تعاني من نقص على مستوى البنية التحتية والخدمات اللوجستية. ومن هذا المنطلق، أبدى الساعاتي اهتمامه بالمنازل المتنقلة التي تتيح للمسافرين تحقيق الاكتفاء الذاتي في ما يتعلق بالقيادة، النوم وتحضير الطعام والتجهيزات المختلفة. وهكذا تمكنت ديستيفايند، من خلال خدمة الكامبرفان، من سد هذه الفجوة، وأتاحت لعشاق السفر والمغامرات فرصة استكشاف السعودية بطريقة لا مثيل لها.   

إذاً تُظهر مسيرة عبد الرحمن الساعاتي أهمية التواصل مع الذات. وحين يتحدث عن السعودية، تبدو بنظره أشبه بكنز دفين يخفي كثيراً من المعالم الطبيعية المدهشة. وهو ما يخالف الصور النمطية ويشكل دعوة لهواة السفر إلى زيارتها للقيام بمغامرات فريدة تتخطى حدود الرفاهية المادية. وفي هذا السياق، لا تقدم ديستيفايند فرصاً للاستكشاف فحسب، بل تروّج لمفهوم جديد في عالم السفر يقوم على إعادة التواصل مع الطبيعة، الابتعاد التام عن الضجيج والاستمتاع بكل لحظة أيضاً.