في أزقّة جدة التاريخية مع سارة عمر

في أزقّة جدة التاريخية مع سارة عمر

من قلب جدة البلد، إلى عمقها التراثي الآخاذ، وتاريخها العريق، وبيوتها الحيّة وأزقتها المكتظة بالحكايات، نتنقل بصحبة الرحّالة سارة عمر لاستكشاف جواهر المدينة الخفية وأفضل مواقعها السياحية.
10 أبريل 24
Share

هل تخطط للقيام بجولة سياحية وتاريخية في قلب جدّة البلد من دون أن تعلم من أين تبدأ وإلى أين تذهب؟ في الواقع، ننصحك بالاعتماد على سكان المدينة، إذ يمكن هؤلاء اطلاعك على أكثر مطاعمها شهرة، على مواقعها التراثية والتاريخية، كما على تلك الأماكن التي يعشقها كل من يرغب في عيش تجربة تسوق غير عادية.

إذاً، حان الوقت لتتعرّف إلى الرحّالة سارة عمر التي ولدت في مكة المكرمة ونشأت في جدة. فهي تتحدث عن مدينتها بأسلوب مرح وتعبر عن حبها لها من خلال ابتسامة ناعمة ترسمها على وجهها. وهو ما ظهر واضحاً خلال جولة قمنا بها برفقتها على البلد حيث يختبئ كثير من أسرار التاريخ وكنوزه.  

لا يمكنك السير في شوارع جدة البلد وأزّقتها من دون التوقف لبعض الوقت أمام كل ركن من أركانها. فلكل شبرٍ حكاياته، ولكلّ زاوية ذاكرتها، ولكلّ مبنى قصته. لذا ترى سارة أن من يزور جدة التاريخية سيعيش فيها تجربته الخاصة: "جدة البلد، تعني الإلهام، السعادة والفرح".

ورغم ازدحام جدول رحلاتها، وسعيها الدائم إلى استكشاف مختلف الحضارات والثقافات حول العالم، تبدي سارة اتباطها بالبلد، فهي بالنسبة إليها "الموطن والمنزل" ومخزن الذكريات. وهو ما تؤكده بقولها: "البلد كلّها حكاوي، من أولها إلى آخرها".

روعة معمارية

اتبعت جولتنا مساراً اختارته المدوّنة ومؤسسة شركة "المكان" للسفر. وبدأ هذا المسار عند بوابة جديد، أمام ميدان البيعة، وهي إحدى البوابات الرئيسية لجدة التاريخية الكائنة خلف جدران سور بُني منذ قرون من أجل حمايتها من غزوات البرتغاليين. وتوضح مرشدتنا أن البوابة بُنيت في العام 1500 وأنها تتمتع بالخصوصية التاريخية. 

وبعد عبور البوابة الرئيسية، ظهرت أمامنا بيوت جدّة القديمة، وقد تم بناؤها، حسب قول سارة، قبل 150 إلى 400 سنة. وهي تتميز بحجارتها المرجانية  المستخرجة من البحر، وبعمارتها الهندسية المتينة، إذ تم دعم جدرانها باستخدام التكليلة (خشبة يبلغ ارتفاعها نحو متر وكان يتم وضعها بشكل أفقي في كل جدار ما يسمح ببناء طوابق عدة). وبالحديث عن أسماء بيوت البلد القديمة، تلفت سارة إلى أن الدور كانت تحمل أسماء العوائل، وتصف هذا بالأمر "الرائع". وتشير إلى أن هذا  يمكّن الزوّار من التعرّف إلى أهالي جدّة البلد أولاً، قبل بناء تصوّر لوضعهم المعيشي، وحياتهم، واهتماماتهم.

ولا تنسَ سارة ذكر الرواشن أو الرواشين (الكلمة فارسية)، أي التصاميم الخاصة بالنوافذ والشرفات التي تفنن الأهالي في صنعها. وهي لا تضفي لمسة مميزة على الأبنية فحسب، بل إنها تسمح بتلطيف الهواء الذي يدخل إليها، وتساهم في الحفاظ على خصوصية العائلات أيضاً. كذلك ترمز الرواشين إلى الرفاهية، وهو ما توضحه الرحالة بقولها: "كلمّا التصقت أعمدة الرواشين بعضها ببعض، من أعلى إلى أسفل، وغطّت المبنى، دلّ ذلك على الترف وعلى الحالة الاقتصادية الجيدة، والعكس صحيح، فظهور الفوارق بين الرواشين يدل على أن الوضع المعيشي للعائلة متوسط. أجمل ما في الرواشين، أنها تتسم بتصاميم مختلفة، إذ كان أصحاب البيوت يصنعونها يدوياً بحسب احتياجهم".

ونشير إلى أن بيت الهزازي هو أحد أكبر البيوت في البلد. كما أنه البيت الأول الذي يظهر للعيان عند الدخول من بوابة جديد من ناحية اليسار. وهو يتميز بسمات هندسية خاصة وبطابع فريد. 

مركاز البلد

تابعنا سيرنا إلى الأمام، وهكذا شاهدنا أول مركاز. والمركاز هو مجلس مرتفع تدل تسميته على المركز والحضور، علماً أنه يتسع لما يقرب من تسعة إلى عشرة أشخاص. وعن تاريخ هذا المجلس تقول سارة: "قديماً كان العمدة والتجار وأصحاب المحال يجتمعون في المركاز من أجل مناقشة قضاياهم والتباحث في شؤونهم، والحديث عن العمل والتجهيزات وأعمال الصيانة التي يحتاجون إليها. وحتى يومنا هذا، ما زال سكّان جدة البلد وبعض من يقطنون خارجها، يجتمعون في المركاز عصراً، ويشربون الشاهي ويلعبون الدومينو. وهذا يدل على ارتباطهم العاطفي بأماكن البلد وزواياه". واللافت أن جدة البلد تضم عدداً من المراكيز المنتشرة في حاراتها وساحاتها.  

رباط الخنجي

نواصل السير حتى نبلغ مبنى رباط الخنجي المزخرف، وهو أحد  13 رباطاً تحتضنها المدينة التاريخية. وتشرح سارة أنه مسكن يضم غرفاً واسعة مخصصة للنساء اللواتي يتلقين الإعانة من أهل البلد بسبب غياب المعيل. وتضيف: "ثمة رابطان أو ثلاثة أربطة ما زالت قيد الخدمة، وهي تستقبل بعض النساء من كبّار السنّ".

وعلى خط سيرنا نتأمل الأبنية والبيوت والمراكز، ونشاهد إلى يسارنا معهد الفنون الكائن في بيت الرشايدة والذي يضم العديد من القطع الفنية. وهو، بحسب سارة، من أكثر بيوت البلد شهرة.

وأثناء مضينا قدماً، نقف معبرين عن دهشتنا أمام فندق قصر قريش الذي تعود ملكيته إلى الشيخ عبدالله لنجاوي. وتروي دليلتنا قصته قائلة: "بُني الفندق في العام 1956 وأصبح أول فندق ذا طابع عصري في البلد. وهو يختلف بتصميمه الموقّع من شركة إيطالية عن سائر أبنية البلد، علماً أنه يخضع راهناً لعملية تجديد سيتم بعدها افتتاحه كمعلم أثري".

مسجد الشافعي

يُعتبر مسجد الشافعي أحد أكثر الصروح في البلد شهرة، وهو يضم مبنيين يتميز أولهما برواشينه الخضراء والثاني بلونه البني. وتبدي سارة إعجابها الشديد بجمالية هذا المسجد، وتقول: "هو أحد أقدم المساجد، تم ترميمه ثلاث مرات، لكن هذا لم يشمل المئذنة التي يعود تاريخ بنائها إلى ما قبل 900 عام والتي ما زالت تحافظ على شكلها الاصلي. ويتيح هذا المكان الرائع للزوّار القيام بجولات مجانية حيث يمكنهم التعرف على خصائصه واستكشاف معالمه الأثرية والإسلامية".

مذاقات أصيلة، أسواق وأكثر 

سوبيا كلاي

أثناء التجوّل سيراً في أزقة البلد، ستشعر حتماً بالحاجة إلى استراحة بين الحين والآخر. وتنصحك سارة بالحصول في هذه الحالة على مشروب منعش في سوبيا كلاي الأقدم والأكثر شهرة في منطقته.

وتوضح أن السوبيا، هو مشروب بارد، حلو المذاق، يُصنع من الشعير مع بعض المكوّنات المنكّهة كالزبيب، القرفة، والهيل: "توفي العمّ كلاي، رحمه الله، فتسلّم ابنه زمام المكان. وهو يحرص على إعداد السوبيا على طريقة والده المنزلية".

إذاً نتابع جولتنا ونتجه يميناً ثم يساراً لنصل إلى سوق الأقمشة المتنوع. وهنا، يعرض التجار أقمشة مزخرفة يأتون ببعضها من الهند وباكستان. وفي هذه الوجهة تستعيد سارة بعض ذكرياتها، وتعود إلى تلك الحقبة حين كانت ترافق والدتها من أجل انتقاء بعض الأقمشة لتصميم فساتين المناسبات والجولات.

وهي تشير في هذا السياق إلى أن وزارة الثقافة تقوم بتطوير الأماكن وتنظيمها بهدف الحفاظ على السمات التاريخية للمدينة. وتتابع أن هذا يتم باستخدام أنواع خاصة من الأخشاب واللوحات والتصاميم.

ومن سوق الأقمشة ننتقل إلى محيط بيت الجمجوم حيث تتقاطع الطرق: يميناً سوق الذهب ويساراً سوق البهارات.

سوق البهارات

 في سوق البهارات، يفتح دكان العم سالم الشهير للبهارات أبوابه أمام الزوار، وتنبعث منه روائح الكمون، الهيل، القرفة الطازجة وغيرها. وتلفت سارة إلى أن الرجل ما زال على رأس عمله، وتضيف: "يُشتهر هذا المحل بخلطة البهارات المشكّلة، وقد اعتاد والداي شراءها، وما زال السياح يُقبلون على المكان حتى اليوم".

بيت نصيف

يأتي السياح إلى بيت نصيف التاريخي من كل أنحاء العالم. فقد اكتسب هذا الصرح، مع مرور الزمن، شهرة سياسية وتراثية. وهو يشكل نموذجاً للضيافة في الحجاز، إذ  استضاف، عبر التاريخ، عدداً من الملوك والأمراء، ومنهم الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الذي أقام فيه لسنوات. وعن أوضاع البيت حالياً تقول المرشدة: "تحول هذا البيت إلى متحف، وهو يضم غرفاً عدة، مكتباً ومجلساً. وفي إحدى هذه الغرف يُعرض مجسّم كبير للبلد يتيح للزوّار التعرف على معالمها الأثرية".

زقاق العطارة

ينبض هذا الشارع الصغير بالحياة، إذ يمكن السائح مشاهدة العاملين وهم يصنعون الحرف اليدوية والفنية، والقيام بجولة على المشاغل، والتقاط الصور، والحصول على تذكارات صُنع معظمها يدوياً، من التحف الخشبية إلى الأكسسورات التي اشتهر بصناعتها أهل البلد منذ قرون.

كشك أيامنا الحلوة

نقف في نهاية سوق البهارات ونقرر التوجه إلى كشك أيامنا الحلوة، وهو، على حد تعبير سارة، مكان يحضر "ألذ السناكات" مثل البليلة. وتعني بهذا طبق الحمص المسلوق الذي يقدم مع مخلل الخيار والشمندر والكمون والخل.  

كباب ناجي الحربي

 لا بد من الجلوس إلى مائدة العشاء في أحد مطاعم البلد، هذا ما تشدد عليه سارة قبل أن تنصح كل الزوّار بزيارة مطعم كباب ناجي الحربي الأقدم في المنطقة والذي يُشتهر بإعداد الكباب المشوي والمبشور.

مطاعم الأسماك

تشتهر جدة البلد بتقديم أشهى أنواع الأسماك وخصوصاً سمك ناجل (أو السلمون المرقط المرجاني). ولدى سؤالها عن مطعم السمك المفضل لديها تجيب سارة: "مطعم باعشن للأسماك الذي يتميز بجلساته الأرضية، وبأطباقه الشهية، ومطعم الندى الذي يشتهر بتقديم السمك المقلي".

jeddahalbalad.sa@

إذاً لا تفوت زيارة جدة التاريخية، ففور وصولك إليها ستشعر بأنها قطعة من التاريخ استطاعت تخطي عقبات الزمن وصعابه، ومواجهة أشكال التكنولوجيا والتطور، معتمدة على عزيمة أهلها، وحكمة قيادة المملكة في إدارة الإرث الحضاري والتراثي.