الموسيقى في السعودية

الموسيقى في السعودية

رحلتها من الكواليس إلى أضواء المسارح
19 أبريل 23
Share

في زمن مضى كان الناس يعقدون اللقاءات في المطاعم ويتحادثون خلف أصوات العاملين هناك ورنين أدوات الطعام. في ذلك الزمن لم يكن مسموحاً استخدام الأقراص المدمجة، ولا أجهزة الأي بود، أو أي نوع من الوسائل المرتبطة بالموسيقى في المدارس. حينها كان تشارُك الأعمال الموسيقية أشبه بتبادل البضائع المهربة. إنه زمن ما بعد السبعينيات في السعودية (حتى إعلان رؤية 2030 أي العام 2016). 

لكن خلافاً لما يعتقده الكثيرون، ثمة زمن آخر في تاريخنا أصبحت فيه المملكة نقطة جذب غير متوقعة لفناني المنطقة. كان هذا قبل صحوة السبعينيات التي شكلت نهاية لافتة لحركة ثقافية وموسيقية بلغت ذروتها في الستينيات مع إنشاء الفرقة العسكرية السعودية. فعند تقاعدهم تحول عدد من الجنود إلى أوركسترا إلى جانب موسيقيين من سوريا ولبنان ومصر. وحققت هذه الأوركسترا نجاحاً كبيراً، وخصوصاً مع  انطلاق البث الإعلامي في البلاد. وكانت ترافق بعزفها المغنين، تؤلف الشارات الموسيقية الخاصة بالإذاعة السعودية، وتقوم بالجولات.  

وكانت هذه المسيرة ملهمة ودفعت إلى بروز العديد من الموسيقيين في المملكة العربية السعودية. فحتى سبعينيات القرن الماضي، كان التلفزيون السعودي يبث على الهواء موسيقى وعروض الفرق الموسيقية والمغنين المحليين مثل توحة وابتسام لطفي (التي عرفت أيضاً باسم شادية العرب)، فضلاً عن أعمال فنانين من المنطقة مثل أم كلثوم، سميرة توفيق، وفريد الأطرش. إلا أن الصحوة أنهت كل هذا وعادت بالموسيقى إلى الكواليس.

وهنا نسأل: ماذا يحدث عندما يتم كتم صوت الموسيقى؟ حين يتوقف السائقون عن الاستماع إلى الراديو؟ حين تصبح متاجر بيع الأعمال الموسيقية نادرة، فيما تخضع تلك ذات الخيارات المحدودة للرقابة؟

 وللإجابة نقول إنه رغم أن الموسيقى لم تعد تجربة عامة، إلا أن البلاد واصلت إبراز العديد من المواهب عبر الأجيال، ما يثبت أن الفن والثقافة لا يتوقفان عن المثابرة. وكان يتم تشارك الموسيقى ونشرها عن طريق التسجيلات والأشرطة والأقراص المضغوطة في أوساط أفراد العائلات والأصدقاء، أو أثناء السفر، ثم عبر التلفزيون وصولاً إلى الإنترنت. كما كانت تقام لهذه الغاية الجلسات (اللقاءات الموسيقية الخليجية)، ويتم الاستماع إلى الموسيقى في المناسبات أو الاجتماعات الخاصة.

أما أنا فكبرت، واستمعت فقط إلى ما كان أفراد عائلتي يستمعون إليه. وهكذا كان ما سميته الـ Top of the Pops وهو عبارة عن شريط يحتوي على بعض الأغنيات  المفضلة لدي والتي اخترتها من مجموعة شقيقتي. من الشيلات (تلاوات شعرية تشبه الغناء) التي كان يحب والدي الاستماع إليها أثناء قيادته سيارته، إلى التسجيلات غير المشروعة لموسيقى مايكل جاكسون التي كان يحصل عليها أقاربي، اقتصرت خياراتي على ما وجد طريقه إلى منزلنا.

 فإذا كنت من ضمن قلة ممن كان بإمكانهم الوصول إلى MTV وما شابهها، فقد كان عليك أن تدرك تماماً أن ما تُظهره الشاشة ليس هو نفسه ما يُعرض على الرفوف. في الحقيقة لم يكن هناك من منافس لمصادر التسجيلات الموجودة في تلك الأفلام الكلاسيكية، حيث يمكن عشاق الموسيقى البحث والتعرف على أحدث الفرق الموسيقية وعلى الموسيقى الحيّة التي تُعزف فقط في حكايات تُروى عن بلاد أخرى. وفي الواقع، إذا التقيت سعوديين يتذكرون غلافاً لألبوم ماريا كاري مختلفاً عن ذلك الذي تعرفه،  فاعلم أنّه ليس "تأثير مانديلا" (ويب طب: ظاهرة الذكريات الخاطئة الجماعية، حيث تميل مجموعة كبيرة من الأشخاص لاستعادة ذكريات مغلوطة عن حدث معين، وبينما قد يعتقد هؤلاء أن ذكرياتهم حقيقية، إلا أن ما يتذكرونه قد لا يمت بصلة لما حصل فعلياً)، فقد كانت تلك حقيقتنا. بالفعل، كان يتم في الكثير من الأحيان تغيير أغلفة الألبومات بقلم تحديد أسود – أو فضي وذهبي – للالتزام بالعادات المحلية المتبعة في تلك الآونة.

خطوة خطوة قبل التغيير الشامل

إذاً كيف انتقلنا من هذه الأجواء إلى ليالي الغناء المفتوحة، الحفلات، الموسيقى الحية وتلك المسجلة التي باتت تُبث في المطاعم، وصولاً إلى تنظيم أكبر مهرجان للموسيقى الإلكترونية في المنطقة؟ الإجابة هي: شيئاً فشيئاً في البدء، ثم التغيير الشامل. فمن غير الممكن احتواء الموسيقى. تصوّر مثلاً أنّك تريد وضع سجادة على نبع ماء حار لمنع تسربه. لن تنجح في ذلك وإن كانت السجادة كبيرة. والضغط عليه بشدة سيؤدي إلى تكون الفقاعات تحت السجادة. وحين كانت الموسيقى تُسمع في الكواليس، فهذا يعني أنها كانت لا تزال في منازل الناس، جيوبهم، لقاءاتهم، وسياراتهم (خلف النوافذ الموصدة طبعاً). أما الموسيقى الحية فظلت أيضاً في أوقات خاصة تُعزف وراء الستار.

إذاً ظل بعض فقاعات الموسيقى يتشكل فيما انكمش بعضها الآخر وتلاشى. وفي أوائل العقد الأول من القرن 21، مثلاً، بدأ مشهد الهيفي ميتال يتكوّن مع بعض الفرق المحلية من خلال حفلات من نوع Battle of the Bands كانت تقام في المدراس والتجمعات السكنية الأجنبية. وقبل أن يصبح اسم Syrup – مساحة موسيقية وشركة – ما هو عليه اليوم،  نظم مؤسسها، مصطفى شيره، ليالي غناء مفتوحة، وهو أمر كان غير مسبوق حينها. ورغم ذلك، ومع أن البيئة السعودية شهدت تلك الأحداث، إلا أنها كانت غير قانونية وتعيّن على القيمين عليها التخفي خلف عناوين أخرى خاصة. ولا ننسى أن هؤلاء كانوا في الكثير من الأحيان يشعرون بالارتياب فيما كان الحاضرون يلتزمون الهدوء. وهنا لا بدّ من أن نذكر إحدى الأمسيات العلنية التي شاركت فيها نوره العماري.

ونوره هي أول شخص التقيته غنى على المسرح في المملكة. وكانت، هي ولولوة (من لولوة ميوزيك) أول فنانتين تقبّلتا، برأيي، فكرة الانتقال من "المستحيل" إلى "الممكن". في الحقيقة يليق بها هذا لأنها وأفراد عائلتها كانوا من أبرز الموسيقيين الذين أعرفهم في محيطي المباشر، وكانوا ينخرطون في العمل الفني بطريقة ما. 

فقد كانت والدتها، على سبيل المثال، تدير مسرحيات النهضة (منظمة نسائية غير ربحية). ومن خلال ذلك، تمكنت من غرس حب الفن في قلوب أولادها. وفي ما يتعلق بإدخال الموسيقى إلى المنزل، يمكن القول إن الفضل يعود إلى شقيقها خالد. أما شقيقها الآخر، أحمد العماري، "بالو"، فهو أحد الـDJs السعوديين الرائدين. وقد بدأ اللعب بالموسيقى حين كانت الحفلات لا تزال سرية. وهي التجربة التي جعلته لاحقاً أحد أبرز الإداريين المبدعين في MDLBEAST. ولا بدّ من ذكر موهبة الرقص لدى شقيقتها العنود التي تتحرك بحسب الإيقاع كلما غنى أشقاؤها أو عزفوا.  

تخيّل طفلة في سن السادسة ذات شعر مجعد، داكن اللون، تذكّرك بأرييل فيThe Little Mermaid حين تتخلى عن صوتها. "أشعر بأنني كنت أغني قبل أن أتكلم"، تقول نوره العماري. فقد نشأت وهي تشاهد الأفلام الموسيقية الغنائية مثلThe Sound of Music، Xanadu، Grease، Mary Poppins، و Bedknobs and Broomsticks. وهو ما ترك أثراً كبيراً لديها ودفع ما في داخلها إلى الظهور.

وإلى جانب هذا التأثر الكبير بالأعمال الموسيقية في طفولتها، كانت أسرة نوره ترتبط بالفن بطريقة ما. فقد كانت والدتها مثلاً تصمم رقصات وتوجه مسرحيات "النهضة" (منظمة نسائية غير ربحية)، ومن خلال ذلك بدأت تغرس حب الفن وعروضه في نفوس أبنائها.

"في عائلتنا، كنا نحتفي بالموسيقى. كان أحد أقربائي يعزف على العود في أيام العيد وكنا نجلس معاً ونغني. كما كنا نأتي بمطربين ونقيم الجلسات الخاصة. كان ذلك جزءًا لا يتجزأ من حياة أسرتنا"، تضيف نوره. 

ومع مرور السنوات، بدأ حلم نوره الفني يتلاشى منذ أن أدركت أنه غير ممكن التحقق في المجتمع السعودي. إلا أنها استبدلته بحلم آخر يحظى بالقبول. وأثناء إقامتها في دبي من أجل الدراسة، لم تتردد في الاستمتاع بليالي الكاريوكي. كانت أول من يدخل وآخر من يخرج، واكتفت بالغناء لنفسها ولمن حضر وشكل هذا متنفسها الإبداعي.

وخلال عامها الجامعي الأخير، قرأت نورة إعلاناً نشرته مدرسة موسيقى في دبي تقدم دروساً وتساءلت "لمَ لا؟". وهكذا شاركت في دروس الأوبرا وتعلمت تقنيات الغناء، مثل كيفية الشروع في إطلاق الصوت، التنفس، وتشكيل الفم من أجل إصدار بعض الأصوات. وفي نهاية الدورة، قُدمت لها منحة دراسية من أجل دراسة الأوبرا في إيطاليا، إلا أن هذا لم يحظَ بموافقة والدها.

"رغم أنه تغير اليوم، إلا أن رد فعله الأول حينذاك كان "لا يمكن بناتنا أن يفعلن هذا. لمَ ستدرسين الأوبرا؟ ما الذي ستفعلينه؟ عودي إلى المنزل وقومي بالغناء لنا فقط". وهو ما أنهى الحلم تماماً.    

وكي لا تضع حداً لحبها للفن، ركزت نورة على اهتماماتها الإبداعية الأخرى كما على عملها كمديرة فنية، وهو ما أتاح لها التعبير عن نفسها بطرق مختلفة. وأثناء إقامتها في نيويورك للحصول على درجة الماجستير، فكرت ملياً، أرادت أن تعرف سبب عدم شعورها بالسعادة. وكان هذا أحد الأسباب التي دعتها للعودة إلى الموسيقى. وعقدت العزم على ذلك والتقت مدرباً موسيقياً وبدأت بصقل مهاراتها، وهدفت إلى تطوير ذاتها وقدراتها أولاً.

لكن أثناء قيامها بدراسة الموسيقى وبعد إنهائها برنامج الماجستير، توفيت صديقة لها كانت تعاني من مرض في القلب. تذكرت أن الصديقة نفسها سألتها قبل أيام قليلة عما تخطط للقيام به بعد نيلها شهادة الماجستير. وردت بأن تجربتها كانت كافية وأنها تريد فقط العودة إلى أسرتها.

"متى ستبدئين العيش من أجل نفسك؟" سألت الصديقة حينها. وهو السؤال الذي لم تنسه الفنانة. ورغم أنها كانت ترفض دائماً في الماضي طلب صديقتها الراحلة الغناء لها، إلا أنها احتفت بذكراها في أحد أول العروض التي قدمتها أمام حشد كبير.

وبعد عودتها إلى منزل عائلتها، التقت نوره شون كيري، النصف الآخر من الثنائي،  أو الفرقة الموسيقية التي تشكلت لاحقاً. ومنذ المقدمة البسيطة "إنها نوره، نوره تغني"، This is Nourah. Nourah sings، غالباً ما يجتمع الثنائي معاً، لأجل الموسيقى وحباً للموسيقى فقط. وكانت فرقة شون، Contraband، تقيم عروضها بشكل مؤقت في مجمع تحت الأرض، وخلال أحد تلك العروض، طلب الفنان من نوره أن تنضم إليه على المسرح لتقديم باقة من 4 إلى 5 أغنيات. وكانت كلمات التشجيع التي حصلت عليها حينها كافية لجعلها تتحقق من أمرين: أولهما أن في المدينة توقاً إلى الموسيقى، وثانيهما أنها تُظهر تعلقاً شديداً بالشعور الذي انتابها أثناء تشاركها ذلك الوقت مع الجمهور ومشاهدتها ردود الأفعال المختلفة. 

قدم الثنائي العروض تحت الأرض بين العامين 2017 و2019. وحين أعلنت الهيئة العامة للترفيه في البلاد السماح بإقامة الحفلات الموسيقية الحية، أطلقت نوره حسابها الخاص على إنستغرام لتنشر عبره كل ما يتم التخطيط له من عروض. وإثر هذا، بدأت الحجوزات في المطاعم، للمناسبات وغير ذلك، وبات الموسيقيون يستغلون كل فرصة لإقامة العروض.  

وبعد تقديمها عرضاً في إطار فعالية سفن مونز Seven Moons في العام 2019، اقتربت من نوره امرأة ترتدي النقاب وبدأت تتحدث إليها باللغة الإنكليزية. شعرت الفنانة ببعض الخوف من حكم المرأة عليها وأجابتها باللغة العربية. ولم يكن من الأخيرة إلا أن ردت: "أنت سعودية؟ نحن فخورون بك!". وبعد هذا سألتها إن كان بإمكانها لقاء ابنتها، لافتة إلى أنها تشجعها على الغناء وأنها تريد أن تقدم لها مثالاً تقتدي به. ورغم أن نوره كانت تواجه في تلك المرحلة بعض الرفض، إلا أنها شعرت بالارتياح حين علمت أنها ليست وحدها وأن الأمر بات يرتبط بالمشهد العام. 

"لم يكن الأمر يتعلق بالنساء فقط، بل بالجميع. لم يكن يتعلق بالموسيقى فقط، بل بكل ما نريد متابعته. فإذا كنت تحب أمراً ما بشكل كاف وترى أنه يُشعرك ويُشعر الآخرين بالفرح، إذاً اعلم أنها هدية من الله وأن عليك تشاركها مع الآخرين".  

وخلال مرحلة الحظر التي رافقت انتشار فيروس كوفيد 19، واصلت نوره تقديم العروض الحية عبر انستغرام. وبلغت رحلتها الموسيقية قمة جديدة رائعة حين غنت ضمن Soundstorm 2021، برفقة فرقة الجاز The Nice Band، وكان أقرباؤها ممن هتفوا لها وسط حشود الحاضرين. ومنذ ذلك الحين، حوّلت تركيزها نحو إبداع الأعمال الأصلية المميزة، التعاون مع موسيقيين آخرين، وتشكيل فرقة جديدة.

 فقاعات من نوع آخر 

انطلقت المرحلة الأولى من المشهد الموسيقي السعودي على مستوى عال بعد إعلان رؤية 2030، مع التركيز على بناء مجتمع نابض بالحياة، من خلال دعم الفنون، الثقافة، والترفيه، فضلاً عن جانب استفاد إلى حد كبير من كل هذا وهو الموسيقى. وبعد السماح بتنظيم الحفلات الحية وبعد إقامة أولى فعاليات Soundstorm، وضعت الدولة نصب عينيها تشجيع الموسيقى معبّدة الطريق للحدث الكبير التالي: الموسيقى الإلكترونية.

فإذا كنت تسأل عن سبب انطلاق الموسيقى الإلكترونية على هذا النحو في بلد مثل السعودية، نعلمك بأن الإجابة بسيطة: إمكانية الوصول إلى آذان الناس. فكل ما تحتاج إليه لبدء الإبداع مع هذا النوع من الموسيقى هو جهاز كومبيوتر وشغف موسيقي. كذلك إذا لاحظنا أن هذه الموسيقى تنطوي على أنواع مختلفة، وأنها كانت تُعزف إلى حدّ ما في الكواليس، ندرك أن الانطلاق السريع للموسيقى الإلكترونية في المملكة أمر منطقي.

لنأخذ مثالاً دبوس. فمع انطلاق مسيرته، كانت تُعرض لهذا الدي جي والمنتج الموسيقي غالباً أعمال البوب العربي، لأنها كانت متاحة بسهولة. لكن، مع مرور الوقت، وكلما استمع إلى الموسيقى الإلكترونية، كانت أذناه تستمتعان بالأصوات، وهو ما دفعه إلى التساؤل: "كيف؟ أريد هذا. إذا كان بإمكان أحدههم فعل ذلك، يمكنني أنا أيضاً".

ودفع هذا الفضول دبوس إلى السير نحو عالم من الاكتشافات الموسيقية، وازداد شغفه بالموسيقى أثناء متابعته دراسته الثانوية، قبل أن يصبح منتجاً كما هي عليه حاله اليوم. وفي المرحلة الجامعية، ذهب إلى ألمانيا، حيث يزدهر المشهد الموسيقي الإلكتروني، والتحق ببرنامج تبادل لعام واحد. وبعد عيشه الأجواء الموسيقية هناك، عمل وادخر المال ليتمكن من شراء أول جهاز تحكم موسيقي خاص به وبدأ باستخدامه إلى جانب إنتاج الموسيقى. وعن هذا يقول: "لم أكن أرغب في جمع الأعمال الموسيقية فقط، بل أردت تأليفها أيضاً".  

وبعد تخرجه وعودته إلى الرياض، واصل عمله في المجال الموسيقي. ومع افتتاح Soundstorm في العام 2019، زرع بذرة جديدة في عالمه الفني. وهو ما يوضحه بالقول: "حين أقيم Soundstorm، كنت أدرك أنه الوقت المناسب. كل شيء بات متاحاً. يمكنك التواصل، خوض التجربة الموسيقية، بل أيضاً سؤال الآخرين، وخصوصاً أصحاب الخبرة الحقيقية، عن تجاربهم".   

جمع دبوس بعض المعدات الأساسية، بل أيضاً قدر ما استطاع من المعلومات عن الإنتاج الموسيقي، رغم أنه لم يدرس الموسيقى على المستوى النظري. ومع انتشار كوفيد 19، كان الإغلاق العام فرصة مناسبة بالنسبة إليه، فقد أتاح له الوقت لإجراء التجارب الموسيقية ولإنتاج الموسيقى.

وثمة أمر آخر دفع مسيرة دبوس إلى الأمام. كان ذلك حين نشر مقطع فيديو قصيراً ظهر فيه وهو ينتج الموسيقى ضمن مجموعة مراسلة تضم عشاقاً لها وموسيقيين محليين. وكان من بين هؤلاء بالو Baloo، الدي جي المخضرم والمدير الإبداعي لـ"مدل بيست ريكوردز" Records MDLBEAST.

"شاهد الفيديو مصادفة واتصل بي، وكان ذلك من أفضل الأيام في معرض مسيرتي الموسيقية. كانت تلك الفرصة التي دفعتني إلى المتابعة. كمنتج، تواجه العديد من الخيبات، تعمل بجد، ترسل عملك إلى كل مكان، وفي بعض الأحيان لا تحصل على أي نتيجة لسنوات عدة. لكن ذلك الاتصال فتح أمامي العديد من الأبواب. فكلمات قليلة جيدة قد تساعدك على التقدم لسنوات".  

ومنذ ذلك الحين، قدم دبوس، على سبيل المثال لا الحصر، عروضه لجماهيرXP Music Futures، Soundstorm 2021، حفل إطلاق Gabu Records، وماراتون الرياض، كما تم إصدار موسيقاه عبر MDLBEAST Records وأحد أعماله بواسطة Gabu Records.  

صدمة ثقافية عكسية

إذاً أخرج عصف التغيير المشهد الموسيقي السعودي من الكواليس إلى دائرة الضوء وأذهل الجميع. وكان التحول صادماً. أما أولئك الذين نشأوا في المملكة بعد سنوات السبعينيات وغادروها من أجل الدراسة، فقد عادوا لاحقاً إلى بلد يختلف تماماً عن ذلك الذي تركوه وراءهم. وهي كانت حال الدي جي Gooner.  

"استمعت إلى بعض أعمال الكواليس مثل تلك العائدة إلى الدي جي بالو وفاينل مود، لكنني لم أكن في البدء هنا"، يشرح Gooner. ويوضح أنه نشأ  في جدة، وكان يهتم دائماً بعالم الموسيقى حيث تأثر إلى حد كبير بأشقائه الذين أظهروا ميولاً مماثلة. ورغم أنه كان يستمع إلى أشكال موسيقية متنوعة، مثل الموسيقى العربية، الروك، والراب، إلا أنه سمع في كل الأوقات صوتاً واحد. وهو يتذكر ذلك بالقول: "كان ذلك الصوت، الصوت المفعم بالتفاؤل... الهاوس. لم أكن أعرف ما هو، لكنني كنت أشعر بوجوده". 

 خلال سنوات دراسته في المدرسة الإعدادية، كان Gooner يبحث عن الموسيقى التي تُشعره بالمتعة، ومنذ ذلك الحين بدأ باستكشاف ذوقه الموسيقي الخاص. ومع الانتقال إلى عالم الإنترنت وإمكانية الوصول إلى منصات تشارك الموسيقى، بدأ الفنان، مصادفة، ومن دون تخطيط مسبق، العمل كمنسق أغان. وكان يقوم بتنظيم قوائم الأغنيات بعد تنزيلها، ثم نسخها على أقراص مدمجة CD وبيعها لزملاء الدراسة.

وحين تعين عليه اختيار الجامعة التي سيقصدها، رأى Gooner أن الموسيقى عامل أساسي يساعده على تحديد خياره. لذا قرر الإقامة في سان دييغو، والسبب مدراسها، طقسها والمشهد الموسيقي الحيّ فيها. وخلال سنوات دراسته الجامعية، كان يُظهر تعطشه إلى الموسيقى الإلكترونية. وكان يستغل أي فرصة تتيح له لقاء منسقي الأغنيات المفضلين لديه خلال العروض الحية، وبات يتفاعل مع الأنواع المختلفة.

وفي العام 2014، وحين وصل حبه لموسيقى الهاوس إلى ذروته، عقد Gooner اتفاقاً مع صديق له ليتعلم كيفية مزج الموسيقى والأغنيات. وذات يوم لم يتمكن ذلك الصديق من العمل في إحدى الحفلات، وتعين على Gooner أن يفعل هذا. "كان عليّ التعامل مع أداة المزج والأقراص المدمجة القديمة، وكانت تلك الأقراص لعبتي". إلا أنه، وكما هي حال كل فنان مبتدئ، لم يتمكن من أداء مهمته على أكمل وجه. "كان أدائي سيئاً. لم أكن أعرف شيئاً عن مزج الموسيقى والأغنيات، عن استخدام الـEQ أو أي شيء آخر". لكن بعد مرور عام واحد شهدت مسيرته الموسيقية تحولاً جدياً، فقد واصل العزف في الحفلات المنزلية وخلال الجلسات مع الأصدقاء، واستخدم لهذا أدوات المزج العائدة لآخرين لأنه لم يكن يمتلك تلك الخاصة به بعد.  

وبعد تخرجه وعودته إلى السعودية، اشترى Gooner أداة التحكم الخاصة به، رغم أنه كان يبدي التردد في المشاركة في المشهد الموسيقي الناشئ في البلاد، واختار بدلاً من ذلك الاهتمام بوظيفته التي حصل عليها في الرياض. إلا أن فضوله دفعه في وقت لاحق إلى متابعة شغفه وإلى حضور حفل أقامته كنز KNZ records. وإذ يتذكر ذلك يقول: "كان ذلك صدمة ثقافية، لم أكن أعتقد، في أي وقت من الأوقات، أنني سأجد أشخاصاً يشاركونني طريقة التفكير نفسها في السعودية"، مضيفاً: "كان الحفل منظماً، وكانت الموسيقى جيدة ومنسقة بشكل جيد، كان أولئك الأشخاص يعرفون كيف تسير الأمور".           

وهكذا تمكن الفنان من العثور على مكانه، كما تمكن جمهوره من العثور عليه. وتلقى التشجيع الكبير من صديقه، منسق الأغنيات المحلي المفضل لدى الكثيرين، ماجد. وقدم له الأخير الكثير من النصائح أثناء لقاءاتهما وشجعه على العمل الموسيقي. وبعد تنظيمه بعض الجلسات الخاصة، بات Gooner يجذب الاهتمام بأسلوبه وحضوره المتفائل. ومنذ ذلك الحين، برز على المستوى المحلي وقدم العروض في إطارXP Music Futures و Soundstorm 2021 و Platforma Wolffفي بوخارست. وهو أيضاً أحد مؤسسي Lymm، مشروع اللقاءات الخاص بمحبي الموسيقى، بعد ساعات العمل، تحت الأرض.

الحاضر

تَشكّل المجتمع الموسيقي في السعودية بطريقة فريدة من نوعها، بتاريخه، تجاربه ومساره. فلأن الموسيقى كانت مرغمة على البقاء في الكواليس وتحت الأرض، نشط محبوها من أجل تطويرها حقاً.

"أتذكر أن متجراً واحداً كان يبيع الأعمال الموسيقية في الرياض، وكان عليّ اصطحاب شخص آخر للشراء لأن ذلك لم يكن مسموحاً للفتيات"، تقول نوره ضاحكة. بالفعل، ولّدت هذه الظروف لدى الكثيرين حباً عميقاً للموسيقى وشغفاً بها.

بدوره يعلق دبوس: "كل منتج هنا هو صاحب الحظ الأوفر برأيي". ويتابع: "ما حدث هنا لم يحدث في أي مكان آخر. فنحن نبدأ معاً وكل منا يتعلم من الآخر... يمكنك أن تتصل بأي شخص وأن تقول له: دعنا نتعاون وسيأتي إلى الاستديو الخاص بك. أرى أن لا وجود لمثل هذا الشعور والواقع خارج السعودية".

ولا بد من الإشارة إلى أن هذا المجتمع لا يضم الموسيقيين والدي جي فقط، بل هو أيضاً مكان للفنانين، المصممين، صانعي الأفلام، والمبدعين في كل اتجاه. هو مجتمع يقدم فعلاً المساعدة، يدعم، ويشجع أعضاءه.

وفي هذا السياق يختم Gooner بالقول: "حين كنا نقدم عرضاً ضمن مشروع Lymm  في بوخارست، كان هاتفي متخماً برسائل الدعم: نحن فخورون بك، نعم! بتمثيلك السعودية".